فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (81):

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}
أي: لم يتعظوا بكل هذه الآيات، بل قالوا مثلما قال الألون: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً..}.

.تفسير الآية رقم (82):

{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)}
وسواء أكان هذا قولهم أو قول سابقيهم من الأولين، فقد كان الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر.
ولذلك قال قائلهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78- 97].

.تفسير الآية رقم (83):

{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
أتظنون أن الله تعالى إذا وعدكم بالموت ثم بالبعث أن هذا سيكون في الدنيا؟ لذلك تقولون: وُعِدْنا بهذا من قبل ولم يحدث، وقد مات مِنّا كثيرون ولم يعودوا ولم يُبعَثُوا، فَمَنْ قال لكم إنكم ستموتون اليوم وتُبعثون غداً؟
البعث لا يكون إلا بعد أن يموت جميع الخَلْق، ثم يُبعثوا كلهم مرة واحدة.
إذن: هذا الكلام منهم مجرد سفسطة وجدل لا معنى له.
وكلمة {وُعِدْنَا..} [المؤمنون: 83] يعني بالبعث، والوعد عادة يكون بالخير، كما أن الوعيد يكون بالشر، كما جاء في قول الشاعر:
وإنِّي إذَا أَوْعدتُه أَوْ وَعدتُه ** لَمخِلفُ إيعَادِي ومُنجِزُ موْعِدي

يعني: هو رجل كريم يترك الشر الذي توعّد به، ويفعل الخير الذي وعد به، وإن قال العلماء: قد يستعمل هذا مكان هذا.
لكن، هل الوعد للكفار بالبعث وما يتبعه من عذاب وعقاب يُعَدُّ وَعْداً؟ قالوا: نعم يعد هذا الشر وهذا العذاب الذي ينتظر وَعْداً بالخير لأنه يُنبههم ويَلفتهم إلى خطورته حتى لا يقعوا فيه إذن: هو خير لهم الآن حيث يُحذِّرهم كما تحذر ولدك من الرسوب إنْ أهمل في دروسه.
ومن ذلك أيضاً في هذه المسألة ما أشرنا إليه من تكرار قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] في سورة الرحمن، وأنها جاءت بعد ذِكْر نعم الله على سبيل التوبيخ لمَنْ أنكر هذه النعم أو كذَّب بها، وتكررت مع كل نعمة تأكيداً لهذا التوبيخ، لكن العجيب أن تذكر هذه الآية حتى بعد النقم أيضاً، كما في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ..} [الرحمن: 35- 36].
وهل في النار والشُّواظ نعمة؟ نقول: نعم فيها نعمة؛ لأنها نصيحة لك قبل أن تقع في هذا المصير وتحذير لك في وقت التدارك حتى تراجع نفسك.
وقولهم: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [المؤمنون: 83] {إِنْ هاذآ..} [المؤمنون: 83] يعني: ما هذا. وأساطير جمع أسطورة مثل: أعاجيب وأعجوبة، هناك مَنْ يقول: إن أساطير جمع سطر أسطار أساطير مثل شكل وأشكال، فهي جَمْع للجمع. وسواء أكانت جَمْع أسطورة أو جمع سطر، فالمعنى لا يختلف؛ لأن الشيء المسطور قد يعتبره الناس خرافة وكلاماً لا معنى له.
والأساطير هي الكلام المكذوب الذي لا أصلَ له، فلا يُسمَّى الكلام أسطورة إلا إذا جاء وقته ولم يحدث، فلَكَ أن تقول أساطير إنما البعث الذي تقولون عنه {أَسَاطِيرُ الأولين} [المؤمنون: 83] لم يأت وقته بعد، فلم يمت جميع الخَلْق حتى يُبعثوا، فقد أخطأتم التوقيت وظننتم أنكم في الدنيا تموتون وتبعثون هكذا على رؤوس الأشهاد، والناس ما زالت في سعة الدنيا.
إذن: ليس البعث كما تقولون، بل هو حق، ولكنكم لم تضعوا له الكلمة المناسبة؛ لذلك يوجه إليهم هذه الأسئلة التقريرية التي تقيم عليهم الحجة: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ..}.

.تفسير الآية رقم (84):

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)}
ويأتي في السؤال بإن الشرطية الدالة على الشك في كونهم يعلمون.

.تفسير الآية رقم (85):

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)}
فما دُمْتم أقررتم بأن الأرض ومَنْ فيها لله {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] يعني: ما الذي صرفكم عن مالك الأرض وخالقها؟
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع..}.

.تفسير الآية رقم (86):

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)}
نلحظ أنهم لم يجادلوا في هذه المسألة، ولم يقولوا مثلاً إنها سماء واحدة هي التي نراها، مما يدل على أنها أمر غير منكور عندهم، ولابد أن الأنبياء السابقين قد أخبروهم خبر السماء، وأنها سبع سموات، وأصبحت عندهم قضية عقلية يعرفونها، وإلا كان بوُسْعهم الاعتراض، حيث لا يرون إلا سماءً واحدة. إذن: لم يجادلوا في هذا الموضوع.
وقوله تعالى: {وَرَبُّ العرش العظيم} [المؤمنون: 86] العرش مخلوق عظيم لا يعلم كُنْهه إلا الله الذي قال فيه {ثُمَّ استوى عَلَى العرش..} [الأعراف: 54] وقال {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء..} [هود: 7].
والعرش لم يَرَهُ أحد، إنما أخبر عنه ربه الذي خلقه، فقال: لي كذا ولي كذا، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه عظيم. وفي هذه أيضاً لم يجادلوا رسول الله ولم يقولوا إننا لم نَرَ العرش، مما يدل على أن عندهم حصيلة من تراث الأنبياء السابقين انتقلت إليهم فطرة من فطر التكوين البشري في السماع من الموجودين.
وقد وصف العرش بأنه عظيم عند البشر أيضاً، ففي قصة سليمان وملكة سبأ قال الهدهد: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] لأن العرش رمزية لاستقرار الملْك واستتباب الأمر لِلْمَلك الذي لا ينازعه في مُلْكه أحد، ولا يناوشه عليه عدو؛ لذلك أول ما قال سليمان- عليه السلام- في أمرها قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا..} [النمل: 38] وكأنه يريد أن يسلب منها أولاً رمز العظمة والأمن والأمان والاستقرار في الملك.
ثم يقول الحق سبحانه: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.

.تفسير الآية رقم (87):

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)}
فما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تعترفون بأن لله مُلْكَ السموات والأرض، وله العرش العظيم، فلماذا لا تتقون هذا الإله؟ لماذا تتمردون على منهجه؟ إن هذا الكون كله بما فيه خُلِق لخدمتك، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي: (يا ابْن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له) يعني: لا تُلْهِك النعمة عن المنعم. وعلى العبد أن ينظر أولاً إلى خالقه ومالكه، فيؤدي حقه، ثم ينظر إلى ما يملك هو.
ومعنى: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87] الاتقاء: أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، وسبق أن قُلْنا: من عجيب آيات القرآن أن تقول مرة(اتقوا الله) ومرة(اتقوا النار)، والمعنى لا تعارضَ فيه كما يظنه البعض، بل المعنى واحد؛ لأن النار جُنْد من جنود الله ومن صفات جلاله، فالمراد: اتقوا عذاب الله، واتقوا صفات القهر والجبروت بأن تجعل بينك وبينها وقاية.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ..}.

.تفسير الآية رقم (88):

{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)}
معنى: {بِيَدِهِ..} [المؤمنون: 88] تدل على التمكّن من الشيء، كما تقول: هذا الأمر في يدي يعني في مُكْنتي وتصرفي، أقلبه كيف أشاء {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ..} [المؤمنون: 88] مادة ملك منها مِلْك، ومنها مُلْك، ومنها ملكوت.
المِلْك ما تملكه أنت، حتى لو لم يكن عندك إلا ثوب واحد فهو مِلْك، أمّا مُلْك فيعني أنْ تملك مَنْ يملك، وهذا يكون ظاهراً. أما الملكوت فالأشياء المخلوقة التي لا تقع عليها حواسُّك، ولا يمكن أن تعلم عنها شيئاً إلا بإخبار خالقها، والإنسان لا يرى كل ما في الكون، بل إن في نفسه وذاته أشياءً لا يعرفها، فهذا كله من عالم الملكوت.
بل إن الإنسان لا يرى حتى المُلْك الظاهر المحسّ؛ لأنه لا يرى منه إلا على قَدْر مَدِّ بصره، وما خرج عن هذا النطاق لا يراه، وإن كان يراه غيره، ويمكن أن يدخل هذا المُلك الذي لا تراه في دائرة الملكوت بمعناه الواسع.
إذن: الملكوت يُطلق على الأشياء المحجوبة التي لا يراها أحد، أو على الأشياء التي يراه واحد دون الآخر.
والإنسان إذا تعمَّق في عبادة الله وفي طاعته يفيض عليه من التجليات، ويعطيه من هذا الملكوت عطاءً مباشراً، كما قال: {مِّن لَّدُنَّآ..} [النساء: 67].
ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال عنه ربه {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وقال عنه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ..} [البقرة: 124] يعني: يؤدي ما لله بدقة وعلى الوجهِ الأكمل؛ لذلك يأتمنه ربه على أن يكون إماماً للناس {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً..} [البقرة: 124].
فلما أحسن إبراهيمُ ما بينه وبين ربه وبلغ هذه المنزلة قال عنه ربه: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض..} [الأنعام: 75].
لأنه أحسن في الأولى فرقى إلى أعلى منه. كما لو دخل رجل بيتك وشاهد ما عندك من نعيم، ففرح لما أنت فيه، وقال: ما شاء الله تبارك الله، ودعا لك بالزيادة، فلما رأيت منه ذلك قلت له إذن: تعالى أريك ما هو أعظم.
كذلك العبد الصالح الذي عبد الله وتقرَّب إليه بمنهج موسى عليهما السلام، فلما استقام على هذا المنهج وتعمَّق في عبادة الله وطاعته أعطاه الله من علمه اللدنيّ دون واسطة ودون رسول، حتى كان هو مُعلِّماً لموسى عليه السلام.
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ..} [المؤمنون: 88] يجير: تقول: استجار بفلان فأجاره يعني: استغاث به فأغاثه، ومنه قوله تعالى: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ..} [الأنفال: 48] والإنسان لا يستجير بغيره إلا إذا ضعُفَتْ قوته عن حمايته، فيلجأ إلى قوي يحميه ويدافع عنه.
إذن: هذه المسألة لها ثلاثة عناصر: مجير، وهو الذي يقبل أن يغيثك ويحتضنك ويدافع عنك.
ومُجَار: وهو الضعيف الذي يطلب الحماية. ومُجَار عليه: وهو القوي الذي يريد أن يبطش. ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف وبعد أنْ فعلوا به صلى الله عليه وسلم ما فعلوا استجار، ودخل في حمى كافر.
فالحق سبحانه وتعالى يجير مَنِ استجار به، ويغيث مَن استغاثة لكن {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ..} [المؤمنون: 88] لأن الذي يجيرك إنما يجيرك من مساوٍ له في القوة، فيستطيع أن يمنعك منه، ويحميك من بطشه، فَمنْ ذا الذي يحميك من الله؟ ومَنْ يجيرك إنْ كان الله هو طالبك؟!

لذلك يقول سبحانه في مسألة ابن نوح: {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ..} [هود: 43] فالله- عز وجل- يجير على كل شيء، ومن أصبح وأمسى في جوار ربه فلا خوف عليه.
وتلحظ هنا العلاقة بين صَدْر هذه الآية وعَجُزها: فالله تعالى بيده وفي قبضته سبحانه كل شيء، والأمر كله إليه، فإياك أنْ تظن أنك تلفت من قبضته بالنعمة التي أعطاك؛ لأنه سبحانه قادر أن يسلبك إياها، وساعتها لن يجيرك أحد، ولن يغيثك من الله مغيث، ولن يعصمك من الله عاصم.
ثم قرأ قوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وهنا أيضاً يقول سبحانه: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] إنْ كان عندكم علم بهذه المسألة ووصلت إليكم وعاينتموها.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (89):

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}
ففي هذه أيضاً يقولون (لله)؛ لأنه واقع ملموس لا يُنكَر، وطالما أن الأمر كذلك {فأنى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] كيف تسحرون أو أسُحِرتم عن هذا الواقع وصُرِفتم عنه إلى هذا الكلام الباطل؟
هذه قضايا ثلاث جاءت على صورة سؤال لتدينهم بوضوح العقيدة في الوجود الأعلى، وبوضوح البينات في إعجاز البلاغ عن الله، وبوضوح الآيات في آيات المنهج، وقد أراد الحق سبحانه أن يأتي الكلام منهم وبإقرارهم هم على أنفسهم؛ ليكون حجة وشهادة حَقٍّ عليهم.
ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة؛ لذلك سألهم: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ..} [المؤمنون: 84].
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم} [المؤمنون: 86].
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ..} [المؤمنون: 88].
وهم يقولون في هذا كله(لله) إذن: فماذا بقي لكم؟ ما الذي منعكم أن تتقوا الذي تؤمنون بأنه المالك للأرض وللسماء وبيده كل شيء؟ إنه مجرد استكبار وعناد وغطرسة، وإلا فماذا تعني كلمة(الله) التي تنطقون بها؟
إنكم تعرفون الله، وتعرفون مدلول هذه الكلمة؛ لأن مدلول الكلمة سابق على وجودها في لغة البشر، فاللغة عادة ألفاظ توضع لمعانٍ تدل عليها، فالمعنى يوُجدَ أولاً، ثم نضع له اللفظ الدالّ عليه، وما دام أن لفظ(الله) يدور على ألسنتكم ولابد أنكم تعرفون مدلولة، وهو قضية لغوية انتهيتم منها، وإلا فالأمر العدمي لا اسم له. فالتليفزيون مثلاً: ما اسمه قبل أن يخترع؟ لم يكن له اسم؛ لأنه لم يكُنْ له معنى، فلما وُجِد وُضِع له الاسم.
وحيث دارت الألسنة بكلمة الله فمعنى ذلك أنه تعالى موجود قبل وجود الاسم، فالمسألة- إذن- حجة عليكم.
لذلك عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضايا في صورة سؤال لينتزع منهم الإقرار بها، كما لو أنكر شخص جميلك فيه، فإنْ قلتَ له على سبيل الإخبار: لقد قدمتُ لك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصِّدْق ويحتمل الكذب وله أن يعترف أو ينكر.
أما حين تقول له: ألم أُقدِّم لك كذا وكذا؟ على سبيل الاستفهام، فإنه لا يملك إلا الاعتراف، وينطق لك بالحق وبالواقع، وتصل بإقراره إلى مَا لا تؤديه الشهادة أو البينة عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ..}.